في يد الله


في البدء كنت على وشك أن استفتح بـ «كان من إحدى الصباحات» لكن أسقطتها لأن «الإحدى» هذه تحولت إلى «كل» من فرط التكرار

فتصبح الجملة: كانت كل الصباحات طاردة لظلام الأمس، لأن نورها يوسّع المكان وصوتها يذيب الزمان. فآوي إلى الظل، ألتمس أنعم الله وأكفُّ عن الشكوى من طول الطريق ثم انطلق إلى يومي كما تنطلق منار وتالا وفستق وراما إلى مدينة النخيل

هذا هو مُحيّا الفترات الماضية التي عزفت فيها عن النشر، واكتفيت بأن أحياها وأعيشها دون إحداث جلبة الكتابة والإشادة بوجودها، وتتعدد مسببات الاكتفاء، لكن لعلّ أبرزها بأنني تعلمت أداوت تعبيرٍ أخرى غير الكتابة

ولا، ليست هذه تجليات الرغد والرخاء، بل تجليات الحياة بما فيها من مسرات وحسرات، وما تحمله مواسم هذه المدونة من غياب الإله وعودته، وموت الأمل وبعثه من جديد، فأصبح للإرادة صوت يبلغ مسمعي، وللحقيقة نورٌ يدنو بالقرب مني أقتبس منه المعرفة والطريقة في عيش مواسم لا تكون شتاءً ولا صيفًا، أتعلم منه تقبل وجود المنتصف واستطاعة المرور على الربيع دون نسفه وإحراقه، وأن أعي بعد كل هذا، أن التجاوز لا يمتد نطاقه بالضرورة إلى الزمان والمكان. فقد يحدث تجاوز الحدث مع استمرار ظروفه سواء الظروف التي أودت إليه أم التي نجمت عنه، فأتعلم كيف أن أكمل المسير في طريق لا يكون معبدًا على الدوام.

وكتابتي هذه شكلًا بسيطًا من الأشكال المتعددة للمسير، ففي هذه الساعة تحديدًا حالتي الوجدانية منفصلة عن كل ما ذكرته سابقًا، حالة تمثلها هذه الكلمات التي تغنى بها أبو نورة، حيث كانت تدور في الخلفية:

«وبي عبرة محبوسة تمتحني

في عيني وحلقي وصدري شكاوي» 

وها أنا أجد نفسي أكتب عن كل شيء إلا تلك العبرة وما يستتر خلفها، أكتب عن ما يبهج سرائري ويجبر خاطري، أكتب عن القِبلة التي أحاول أن أولّي وجهي شطرها في ظل التأرجح هذا، فلم يزل حاضرًا، إذ أشعر بأنني عالقة في حلقة تكرار، يتعاقب فيها الارتفاع والانخفاض بلا انتظامٍ واتّساق، وتظهر فيها أفكار لا أتبين زيفها من حقيقتها ولا أعلم أهي جمراتٌ أم عرائس؟ وأين يقع حبي وأين يقع خوفي؟ ومن أُقصيه ومن أُجاوره؟

وها أنا مجددًا انغمست في عنوان موسمي وغفلت عن عنوان حياتي، ناسيةً عمرًا قطعته تحت منارة التغيير، من الأمل بقدومه إلى حين لحظة تجلّيه وما بينهما.

ألم يتفوق الماء على الصخرة في النهاية؟ ألم يكن لمبدأ اللاداوم يدًا عليا شيّدت جسرًا قطع بين الضفة والضفة الأخرى وأبدل من حالٍ  إلى حال؟ ألم يتقبل الرب دعاء العبد المغلوب؟ وألم تطرح البركة والتيسير والأمان في ظلال الإيمان التي نعمتي بنعمة الوصول لها بعد أن بالغت الشمس في السطوع؟

وها أنتِ الآن بوركتي بتذكر ما أنتِ مُجللةٌ بهِ من نعم، فتسكن وداعة وتحلُّ طمأنينة تحملك إلى ما هو أبعد من يومكِ المهلهل

وها هي ذاكرتك -التي لا تنفكين عن القول بأنها ذاكرة سمكة وهي بالفعل ذاكرة سمكة- تردد نصوصًا تبعث فيك شيئًا تتعذرين عن وصفه لكنه أشبه بالمعنى الذي يجعل الحمامة تنطلق إلى يومها وهي لا تدري أين يمكث قوتها، نعم ربما تقولينهذه غريزتها يا دارمالكن كلانا نعلم المراد المقصود من توظيف هذا المجاز، نصوصًا كان صحوكِ ومنامكِ بين أكنافها، وأقامت لهذه الأحداث والتجارب معنىً وغاية، وأوصلت ما انقطع من الأطوار المختلفة لهذه التجربة الإنسانية للحياة

أرى تحول الضمير، ولا أمانعه، فأكتب لغيري كما أكتب لنفسي لأننا بالنهاية نميل ونسعى لتجلّي ما نؤمن به على مرأى ومسمع من حولنا

هذا هو رجائي الذي بتّ أعرفه الآن، وهذه هي رحلتي التي أقطعها تحت ظلال الإيمان، فلم يخطأ الكاتب حينما قال«خلِّص سراج القلب من كَدَرِ زيت الشك، فلن يستقيمَ سيرٌ على ضوءٍ أعوج. وإن أحكمتَ التدبيرَ، وبلغتَ الغايةَ في الإعداد، ووجدتَ المخاوفَ على باب الغار، فلا تيأسْ، لن يصلوا منك إلى شيءٍ، إن الله معنا» 

أصل إلى ختام آخر تدوينه بهذه المدونة، وأرى بأن خاتمة  كن بخير واستمتعلا تحمل منطقًا بالنسبة لي بعد الآن

عزيزي القارئ، عين الله ترعاك