رؤى جدعون

لا أعلم إن كانت هذه الطريقة هي الألبق للاستفتاح لكن سؤال ما تبادر إلى ذهني فورًا عندما قمت بفتح هذه الصفحة وهو: ما هي أبرز الأفعال التي يقوم بها الإنسان لكي يمارس وجوده؟ ربما عندما يضحك أو يتألم، ويتأمل..
وما كنت أتأمله في الفترة الماضية هو الحب
ومرة أخرى لا أعلم إن كنت سأوفق في محاكاة السيدة هاجر عندما حبست ماء عين عظيمة انفجرت للتو، وقدرتها على زمّه وجمعه بيديها حينما اشتد الكرب عليها. لنأمل ولنحاول محاكاتها لأنني أمام سيل عارم من الأفكار حول الحب، وأملي في زمّه وجمعه لا يعود إلى خوفي من نفاده كما كانت سيدتنا هاجر، بل ربما إلى خوف سيدنا إبراهيم على أهله من الهلاك
وخوفي أنا ليس محصورًا على أهلي فقط، بل على كل قارئ فأودُّ من حديثي هذا أن يبلِّل فاه كل من مكث طويلا بواد غير ذي زرع

كفتاة ترعرت في وسط شرقي متمكن ومتخصص في اختزال هذه العاطفة ولم يقدم لها سوى صورة واحدة عن الحب والتي أكاد أجزم بأنها الصورة الأولى التي تقفز إلى الأذهان حينما ينطق لفظ "الحب". ألا وهو الحب الرومانسي
وبالتأكيد لست هنا لأعدد أنواع الحب حسب تصانيف الإغريق القدامى أو دراسات علم النفس الحديث.
ربما أنا هنا لأسرد ما تشربته في طفولتي وما واجهته أثناء مرحلة نضوجي وما أشعر به هذه اللحظة
أنا هنا لأظهر شعور كان بمثابة اليد التي لا تنفك عن تتبع الشرخ في الأشياء، فهنالك دومًا شرخ يلج من خلاله الضياء كل ما أظلمت، حتى في أعماق الكهوف ومهاوي الجبال.
أنا هنا لأضرب جذوره في أرض جدباء أنزل لها أثناء نوبة الاكتئاب وهي ليست نوبة ما قمت بعبورها واجتيازها، بل هي لازالت تتسلل إلي من وقت إلى آخر
فهي أشبه بضيف ثقيل لا يؤمن بالإخطار وطرق الباب، بل يؤمن بالخلع والمداهمة فيداهمني حينما تكون الأجواء من حولي مفعمة بالحب لكنها لا تصل، لا تصل إلى زوايا قلبي لأنها تصطدم وترتطم بجدار أقامه ضيفي فما أعدله!
حينما تكون الأجواء من حولي متوهجة بالأضواء الملونة لكنها لا تنير بصري لأنه خطف الألوان عني باستثناء الأسود فما أكرمه!
ضيف يؤمن بالشك وسلب الإرادة، فتتمطى أسئلته المريرية في أعماقي ببساطة مستنزفة فما أرحمه!
ضيف لا يحزم أمتعته استعدادًا للرحيل إلا عندما يراني أنهار وأهوي لأن برزخ الحياة والموت بدأ بالتآكل فما أشهمه!

ها هي لغتي تحمل بين طيّاتها العديد من الاستعارات التاريخية والخيالية وها هو واقعي خالي من أي انعكاسٍ لها، لا وجود لها ولو في ومضة برق
ثلاجتي تتكدس بأكياس الفاصوليا، حمراء وبيضاء وخضراء لكن لا وجود لحبة فاصوليا سحرية تُنبت لي شجرة عملاقة لا حد لطولها غير السماء فأقضي عمري في تسلقها حتى أصل إلى القلعة ثم أشرع في تمشيط ساحاتها وممراتها أملًا في لقاء فقيدتي رحمها الله
وهنا أتريّث قليلًا لأهضم مسألة الفاصوليا قبل الانتقال إلى بقية الرموز الخرافية 
لأنني أرى رباطًا وثيقًا بين تاريخ قبلتي الأخيرة لجبينها وتاريخ إدخال الفاصوليا في حياتي وجعلها وجبتي المفضلة، فكلا التاريخين يقعان في نهاية يناير الماضي. ربما عقلي الباطن يؤمن وبشدة بهذه الخرافة وإمكانية تسلق شجرة أطول من عمري لألقاها واقبل جبينها وهي حيّة، لا وهي مستلقية في ثلاجة الموتى.. لا شك أنه يؤمن كإيمان الأنبياء
ومع ذلك لم تكن هناك عصا سحرية تُعيد ترتيب عالمي بعد تلك القبلة ولا كرة زجاجية أحدق بها فتخبرني عن مستقبل عالمي إن كان سيشق طريقه ويعبر جبهات الفوضى أم لا
إذًا لم يكن هناك وجود للخرافات، فانتقلت إلى الأساطير أفتش عن وجودها لأنها تختلف عن الخرافات، فهي حكايا مقدسة أبطالها الآلهة التي تتجاوز قوانين المكان والزمان من قدم وحداثة ولذلك وجود الرب الذي لا أول له ولا آخر بحد ذاته كان سببًا كافيًا لجعل إيماني وتمسكي بالأساطير أقوى من الخرافات لكن ما آلت إليه الأمور لاحقًا جعلتني أعي بأن قبلتي الأخيرة لم تكن كبقية القبلات، أشبه بقبلة صورية ظاهرها قبلة وباطنها قنبلة تفتك القلوب بانفجاراتها اللامتناهية.
"هأنذا يا رب"
هذا ما نطق به إبراهيم عندما أتاه الأمر الإلهي بذبح ابنه، وما نطقت به الكثير من الشخصيات العبرية تعبيرًا عن الاستجابة والامتثال للإرادة الإلهية من غير روع وجزع
وهذا ما نطق به أيضًا الفنان ليونارد كوهين حينما حدثه قلبه بأن ساعة الرحيل على مقربة منه فقرر أن يقف ليقدم "العشاء الأخير" ، يطرح فيه آخر تساؤلاته ويدلي بآخر تصريحاته بعد ما قطع ٨٢ ربيعًا
"هأنذا
أنا مستعد يا رب"
حاولت أن أسلك نهجهم واتخذ من هذه الكلمة العبرية شعارًا أبدد فيه رهبتي وكربي وفشلت
لم يكن هذا الشعار المنشود، لم يكن قط
ما كنت أحتاجه هو شعور أرسي به أقدامي ويُطفئ جمرات أفكاري.
وما كنت أفعله (وما أفعله في أحيانًا كثيرة) هو الجلوس والانتظار إلى أن يطرق الشعور بابي، غفلت عن حقيقة أنه لا يحتاج لطرق الباب لأنه في المنزل منذ أزل.. يحتاج فقط إلى أن أتجول في دهاليز روحي لأجده  وما كُشف لي أثناء تجوالي بأن الحب بمجرد أن توسع له قليلًا سيهب كثيرًا.
أعدت كتابة هذا السطر عدة مرات، لأنني كل ما انتقلت إلى إيضاح المعنى أرى قلمي يتجه إلى وصف الصورة.. أهو من فرط ما أشعر به؟ أهو من سباق الكلمات فيما بينها وتحاسدها في من سيحظى بشرف الكشف عن المعنى؟ ومن وسط هذا التعثر والتوقف أتساءل إن كان الأمر معكوسًا في الحب، بمعنى أنني إذا أردت إيصال مفهومه يجب أن أسلك الطريق من الخارج نحو الداخل، أستمر في وصفه حتى أبلغه، كالشمس في بلوغها لكبد السماء.

الحب كالفجر في غرّته حينما يخلع ثوب الدجى متبسمًا، فأسير في أيامي بجواره وأراه ينظم قصائدي ويخيط ألفاظي، يروي أشجاري وينضج ثماري.
لا أستطيع الإنكار بأن تلك الكيمياء تجعلني خليفة بابار فيل وهو يغني "ليس هنالك ما يخيف".. أُرفع لعرش الشجاعة، حاملة بين يدي سيفي وتُرْسي.
ولا أستطيع أيضًا فهم النفس التي لا يحول بينها وبين ذلك العرش إلا تذكير بأن وجودها محبوب ومرغوب.. لماذا؟ لماذا بمجرد ذلك التذكير يتحول شكل مائها من ماء راكد إلى ماء جاري؟ 
لذلك اقتنيت طوق الحمامة لابن حزم لأفتش فيه عن الأجوبة ولم أهتدي لجواب، لكن ربما في القراءة الثانية أو الثالثة.

إنني ما أريده حقًا هو أن تنتبه حواسي وتجذب الحب بجميع صوره، ظاهرة أو خفيّة، مادية أو معنوية، أريده لأحسن سياسة كل ما رُزقت به، لأجيد السعي لكل ما أتوق إليه.

أنا كنت هنا لأعلّي من صوت الحب حتى ينساب مع الرؤى وأنام فلست جدعون، جدعون الذي كان يطمح إلى أن يتجلى له الإله بصورته الحقيقية لكي تنطرح الشكوك عن كتفاه ويهدأ باله
لا نتشارك هذا الطموح لكننا نتشارك شكوكنا ونتشارك في سعينا إلى الخلاص والتوقف عن الترحال ونتشارك حاجتنا الشديدة إلى رؤى تبثُّ لنا الطمأنينة والسكون، لا سكون ساحة المعركة بعد الهزيمة بل سكون كروان في عشه الدافئ حينما تلملم الشمس رداءها الذهبي.

استوقفتني آخر جملة واختياري العفوي لكلمة "كروان" وهذه المرة الأولى التي استعمل هذه الكلمة في كتابتي.. أقف قليلًا وأتأمل كثيرًا 
هنالك شخص ما يدعوني بالكروان، شخص كنت أشير له في كتابتي بفتى أم كلثوم لأن الست هي من جمعتنا ثم أصبحت أشير له بشمس، كشمس التبريزي لأني في تلك الفترة كنت في أوج السكرة من قواعد العشق الأربعون ولأنه كان لي شمس في كثير من الأوقات 
أما الآن في هذه الكتابة إلى ماذا سأشير له؟ وكيف سأشير إلى صحبتنا التي لم أعهدها في حياتي أو في حياة المحيطين بي؟ 
أجوب اللغة وأتدبر دلالات ألفاظ القرآن لعلّي التمس منها نورا يمد ويبسط سبيل البلاغة والبيان، لأن شمس المعنى لم تسطع بعد، لازلت أسهب في الوصف وأطوف حول الصورة

آن لتلك الأقدام أن تستريح، لتكمل الطواف فيما بعد.

كُوني بخير واستمتعي ندى
كُن بخير واستمتع قارئي