مناجاة آيودي

صباح/مساء الخير


(قد يرى البعض بأن الكتابة ترفاً ورفاهية أو عمل طفولي ولا أمانع بتلك النظرة لأني لا آبه حقاً ولا أكترث لأقوالهم حول طوق نجاتي فأنا لا أكتب إلا عندما أشعر بأني سأفقد صوابي إن لم أفعل. إلا أني لم أكن أنوي أن أكتب حول ما مررت به منذ مطلع 2018 حتى الآن لأني لم أرغب حقاً في تخليد تلك الفترة الثقيلة والقبيحة، أردت أن أتناسها وأطويها ثم أفعل كما فعلت أم موسى، أقذفه بالصندوق وألقيه في اليمّ.. لكن بسبب انتكاسي في الآونة الأخيرة وعودة نوبات الانهيارات أدركت بأنه لكي أمضي وجب علي انتزاع وانتشال هذه الكآبة التي أصابتني بها تلك الفترة، وها هنا الآن أجد نفسي بأني كتبتها ودوّنتها وخلدتها رغم أنني لم أكتب الأحداث ولم أتطرق لها أبداً وليس بسبب أني سأنتهك خصوصيتي وخصوصية من كانوا في هذه الأحداث عند قيامي بنشرها، فمنذ طفولتي إلى هذه اللحظة لم أدوّن أي حدث في جميع مذكراتي لأنني لا أهتم لها بقدر ما اهتم بما تُخلّفهُ هذهِ الأحداث من آثار بعد انقضائها  
في الماضي قد طرحت تساؤل وكان:
"اتخذت لها مُتكأ وبدأت تكتب، بعدها عدلت عن الكتابة لتتساءل: ما المغزى؟"
أصبحت الآن أعرف ما هو المغزى.. المحاولة في التجاوز والذي أراه يتجسد في هذا الدعاء)
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي







منذ آخر تدوينة لي بدت لي فكرة الكتابة عن مشاعري فكرة سخيفة وساذجة 
كيف لي أن أترجم ما يسكن في جوفي ثم ألزمه بالتزامات الكتابة؟
تنسيق الأسطر وتجنب الأخطاء الإملائية، تلوين الكلمات بالتنوين والشدة، مراعاة مواضع الفاصلة والنقطة
الحرص على إخفاء عيوب كتابتي من تكرار المفردات وتشتت المقصد وسوء القواعد النحوية
لطالما أزعجتني تلك الالتزامات رغم إيماني المقدس بعظمة اللغة، لأنها هي الفاصل ما بين الخلود والفناء
والفاصل ما بين الجنة والنار والفاصل ما بين الوجود والعدم
فعندما أقرأ في الديانات الإبراهيمية حول نشأة الكون أرى بوضوح اختلاف رواياتهم لكنهم جميعهم
اتفقوا وأجمعوا على أن الخلق ابتدأ بكلمة واحدة: "ليكُن".. إلهي لا يوجد أجمل ولا أروع ولا أبلغ من هذا السحر، سحر الكلام!
الكلمات هي الدين الأول والفن الأول والعلم الأول، فهي بإمكانها أن تهدم وتبني، تلملم وتشتت، تكسر وتربط في الضياء أو العتمة، في الحرب أو السلم، في الطيب أو السقم، في الاعوجاج أو الاستقامة هي الملاذ والملجأ
هي الأصل في كل شيء..في الترادف والتضاد

قد لا يسعني المجال هنا عن هذا الحديث لكن اعتقد بأن 
هذا الحديث أجمل حديث يجذب طرفي وسمعي ونطقي، يملأ قلبي بالحياة.  

الآن يقف أمامي الامبراطور الروماني شارلمان ويقول:
"To have another language is to posses a second soul"

ويأتي حامد سنّو مناجياً لآلهته في أغنيتهِ آيودي:
"الكلمات تنفس
بس الحياة تنفس
كلمني.. كلمني"

ثم تختم ماجدة الرومي الحديث:
"وأعودُ.. أعودُ لطاولتي لا شيء معي إلا كلمات"

ومن هذا المنطلق أُقرّ بأن اللغة هي جوهر الحياة وبأنها هي ملّتي وما اتبعه في حياتي
لكن كأي مؤمن قد تأتيه أوقات يختلجُ فيها صدره ويصبح في ريبٍ من إيمانه، رويداً رويداً يضعف ويتخبط إلى أن يكفر وما حدث معي لم يصل إلى المرحلة الأخيرة، فلم أكفر إنما اعتزلت وهجرت الكتابة
في بداية الأمر كنتُ اعتقد بأنها هي من تخلّت عني، لأن لا شك بأن صدى صوتي وهو يستغيث ويستدعي قد بلغ مسامعها ومع ذلك
لم تمد لي يدها، بل حتى طيف تلك اليد لم ألمحه، لكن كما قلت في الماضي "كنت اعتقد" وحاضري الآن يلزمني بأن استبدل "اعتقد" ب "أتوهم" فقد كنت أتوهم بأنها هي من هجرتني وشتان ما بين الوهم والحقيقة
أُزيلت الغشاوة وكُشف المستور واختفت الأصوات وسكنت الحركات وتجلّت الحقيقة كما يتجلّى نور البدر في أوساط الدجى، واضحة كأصابعي التي ترتعش الآن
كان الخوف من أوهمني بذلك، أتكلم عن خوفٍ أريد أن أطلق عليه "الوحش".. وهذا الوحش ليس كغيره من الوحوش الذين يسكنون تحت الأسرّة أو خلف الستار، هذا وحشٌ اتخذ مني مسكناً له وحال بيني وبين نفسي قبل أن يحول بيني وبين العالم، أشعرني بالعجز وقلة حيلتي وقوتي ممّا منعني من التقدم في كل أمر، احتلّ أجفاني فمنع النوم من زيارتها، وأخيراً انتهى بتمزيق رابطتي المقدسة باللغة فلم أعد أقرأ، لم أعد أحفظ، لم أعد أكتب.


ولجتُ لدائرة الخوف وأصبحت غريبة على اللغة، وهنا أجد صعوبة في وصف ما يتعذر عن وصفه، وهذا الواقع يرعب أحرفي عن الكتابة وإن كنت لازلت أخط في هذه الصفحة لكي لا تصبح خاوية. أو ربما أنني لم أملك الشجاعة الكافية على ذلك لأن روحي ستتعرّى وتتجرّد.
ذلك الوحش كان يزداد شراهةً واتساعاً في كل لحظة حتى وصل مجالي الأكاديمي وأثّر فيه بشكل سيء جداً، معظم الأسئلة كانت تأتي بصورة مقالية والذي تتطلب مني في إجابتها شرحاً وتبريراً وتعليلاً ونقداً. كنتُ أرتبك كثيراً عندما أجيب لأني أكون أسيرة حيرتي.. بأي طريقة أكتب؟ بأي طريقة تُخفي هذا التبعثر؟ بأي طريقة أثبت فيها ركبتاي قبل أن أجثو عليهما؟ 

يرجع الزمن بي الآن إلى اللحظة التي أبحت بها إلى أمي عن رغبتي بالتوقف عن دراسة هذا الترم وتأجيله لأني لم يعد بوسعي على ممارسة الحياة والخوض في ذلك الروتين مرة أخرى، أردت أن أتوقف لبرهة من الزمن لألتقط أنفاسي من قنوطي ويأسي، ولعلّ أمي غفلت عن نبرة صوتي ونظرة عيني فلم تتفهم رغبتي وصرفت النظر فيها صرف نهائي غير قابل للإستئناف والطعن وهكذا أكملت ذلك الترم وأنا مُكرهه.
كانت لحظة الاستيقاظ من اللحظات التي استشعرت بها رغبة مريم في العدم

  {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا }


كل فجر كنت أقف أمام مرآة حمامي وبالكاد أرى انعكاسي لبطء الرؤية وهي تتشكل، لكن لا يخفى علي خيبتي وهشاشتي، لا داعي لانتظار حدقة عيني وهي تضيق حتى أبصرهما لأنني بكل أسى كنت أشعر بهما. كنتُ أشاهد قداسة الفجر وهي تتدنّس وروحانيته وهي تتشوّه، وبالرغم من هذا كنتُ عندما أخرج من بيتي لأمارس الحياة أتطلع إلى السماء وأناجيها بأسراري، وأتوقف قليلاً لأعبّر عن امتناني بأنها تطوقني من كل جانب وترافقني في معظم يومي، فلا أنقطع عنها سوى سويعاتٍ قليلة ثم أعودُ إليها مرة أخرى.
أعبّر لها عن امتناني أيضاً بأنها قدّرت لي رفيق من أهل الأرض، قدّرت لي فتى أم كلثوم..
 فتى أم كلثوم الذي لم تقترن سماءهُ بأرضي ولا سمائي بأرضه، فتى أم كلثوم الذي كان بجانبي منذ مطلع الفلق حتى مجمع الغسق. وهنا أتردد في كتابتي.. أأكتب عني أم عنه؟ لأني لا أستطيع حقاً فصل خطوطنا عن بعضها ولا فصل خطوط الرومي والتبريزي عنّا.. نعم إنني أرانا بهم، أنا الرومي وهو شمسي، شمسي الذي لم أتمكن بأن أُبقي مسافة معقولة بعيدة عنه، ربّاه! بل كانت المسافة تسقط ويسقط معها الزمن أيضاً، شمسي الذي لم أستطع شقّ طريقي وسط تلك العاصفة بدونه، شمسي الذي كنت حقاً أرغب بالنطق له عندما كنت أستثقل هذا الفعل مع غيره، وهنا أقف قليلاً لأنظر في مسألة التحدث، لا اعتقد بأني استطيع أن أبدأ يومي وأنهيه من دون أن أخوض في أية محادثة، سواء كانت محادثة مقصودة أو غير مقصودة، إجبارية أم اختيارية، مع غرباء أو أحبة، لم أستطيع أن امتنع عن التحدث لكني فقدت رغبتي به، أمّا مع شمس فكنتُ أودّ بأن أخوض الكثير والكثير من المحادثات.
كانت تختفي كل ملامح الحدود والاعتبارات، لا يوجد سوى أنفسنا وانعكاسها، وأحاديثنا المتعددة الأطوار التي تبدأ بسرد أحداث يومنا أو كما أطلقنا عليها مؤخراً "يوميات غامبول" ثم يصطحبني إلى الست وأغانيها وقصصها مع ملحينيها، ثم بعدها من حيث لا نعلم نبحر إلى الفلك ونتناول نظرياتنا واعتقادتنا حول أصل الحياة لننتهي بتساؤلات فقهية دينية وقد تكون هرطقية للبعض، نتحلطم كثيراً ونتفنن في عمل الدراما ، وما بين هذه الأطوار وأطوار أخرى لا يستطيع أن يتخلى (هالمعفن عن فقرة المحارش والطقطقة) لكني لا أمانع حقاً فأنا لا أستطيع أن أتخلى عنها أيضاً :)
 لطالما تفكرت بطبيعة علاقتنا لأنها مُعقدة التصنيف والشرح لكن بعد أن تمعنت في من رأيتُ أنفسنا بهم عرفتُ بأن علاقتنا هي تلك العلاقة التي دائماً يتحدثون عنها البشر، علاقة تُرزق بها مرة واحدة في العمر، قد تتشكل في علاقة أخوية أو علاقة صداقة أو علاقة حب، لكننا لا نحظى بها إلا مرة واحدة في العمر. وأعودُ إلى السماء لأعبّر لها عن امتناني أكثر، وأطلب منها الرأفة والقوة حينما يأتي اليوم الذي تختفي فيه شمسي، كما قلتُ سلفاً رأيت أنفسنا بالرومي والتبريزي.. بما فيها نهايتنا، ستأخذهُ الحياة كما أخذت التبريزي من الرومي باختلاف الروايات، منهم من قال أن التبريزي غادر بإرادته ومنهم من قال بأنه مات قتيلا. في كل الأحوال أعلم تمام العلم بأنه يوماً ما سأرجع إلى حالتي الأصلية، أنتظر شروقاً وأُسامر بدراً بمفردي كما كنت. وعلى الرغم من معرفتي وإدراكي لهذا إلّا أني لا أقدر على تهدئة قلبي ولا أن أتصالح مع خوف الفقدان..    فسلاماً وبرداً.


وأخيراً أختم امتناني لأخي الذي لم يبلغ من العمر سوى ١٠ أعوام 
أخي الذي ينظر لي كما كتب هنا في عيديّتهِ المتواضعة لي:



"لأحسن أخت في العالم ومتفاهمة
هذا كل اللي اقدر عليه"
والجملة الأخيرة تُشير إلى العشرون ريالاً المرفقة داخل هذا الورقة المطوية بعناية.
تلك الليلة أفرطت في البكاء كثيراً، لا اعتقد بأني سأحظى بعيديّة أروع من هذه!
كم أنا مُباركة لأكتسب هذه النظرة في عينيه في أشد الأوقات التي انغمستُ فيها بذاتي.

ها أنا وصلت للخاتمة وأعي بأني سأنشر تدوينة معظم أجزائها المهمة لم أنقلها، وأكثر تفاصيلها الجوهرية أهملت ذكرها. لكن وجب علي فك الحصار، فكلماتي كانت تحاصرني في يقظتي ومنامي وتتسللّ أحياناً إلى أحلامي.
لا أعلم حقاً لماذا أنشرها وانا لم أنتهي بعد من هذا الفصل، ربما أعلم لكن لا أستطيع التفسير أو ربما بسبب تطلّعي لليوم الذي سيأتي حتماً وأغادر فيه هذا الوكر وأتبدل، فليس من طبائع الكون أن يبقينا دوماً على حالنا. 

وأخيراً يا قارئي إن صعّدتك للسماء أو أهبطتك منها، حدثني فأودُّ أن أعلم


كُوني بخير واستمتعي ندى
كُن بخير واستمتع قارئي