تحيات شمس ‏


فتحت مذكرة الهاتف عدة مرات لأكتب لكن لم يخرج مني حرف واحد، فاتجهت لدفتري وقلمي المفضل للكتابة وتحسّن الحال قليلًا إلا أنه لم يكن كافيًا لإحتواء حجم النقطة التي أريد أن أضعها على السطر، لدي عدة جمل منتهية لكنها تفتقر للنقاط، ولهذا أشعر بأنها لازالت تنبض حياة وتخلق وجود في حياتي.. فالنقاط تمثل الختام والوداع.                        

وكلما طالت الجملة وزاد وزنها كلما صعب علي وضع نقطتها فتتخدر يدي وتتعسر الكتابة، وهذا ما كان يحدث حينما كنت أحاول توليد تلك النقاط بما استطعت من وسائل، حتى أني قمت بتجربة التدوين الصوتي بلهجتي البيضاء كما هي وحينما أفرغ من التسجيل استمع إليه وأنقله إلى دفتري بالفصحى بعد التنقيح والتعديل، لكن تسجيلاتي ضمت ضحكاتي أكثر من كلماتي وكلما تناولت أمر التسجيل بجدية كلما انفجرت ضاحكة لغرابة فعليفلذلك عدلت عن مشروع النقاط ذاك واستحسنتُ مشروع أبسط كبساطة إلقاء التحية على من نُحب تمهيدًا للتحليق في فضاءهم الرحب فيسعد القلب وتشرق الروح وتقوى النفس، تحيةٌ لا يسع لها إلا بعدٌ واحد من أبعاد الزمان: الحاضر.. هنا والآن.                                                                                                                         هذه هي تحيّاتي.. أُلقيها ليشع نوري الداخلي

(لا أعلم إن كنت سأستمر في ممارسة اليوغا أم لا لذلك أحببت أن أوضح ما المقصود بتعبيري المجازي "تحيات شمس"، هي حركات جسدية يكون الهدف منها الإحماء والمرونة لما هو قادم، وتحمل جانبًا فلسفيًا في العقيدة الهندوسية باعتبارها طقسًا دينيًا يفتتح الصباح بها

على نوافذ بيتنا أميل بجذعي، مرة نافذة حجرتي ومرة نافذة حجرة أمي ومرات كثيرة نافذة المجلس؛ لموقعه البعيد عن بقية الحجرات فيتيح لي الهدوء والسكون لأخرج زفيرًا طويلًا، فالجائحة الخارجية (كورونا) بطبيعة الحال ولّدت جائحة داخلية في المنزل، ويبدو بأن الوقوف على النوافذ إحدى وسائل الوقاية المتعددة لأنني حينما أمرر يدي على سطحها واستشعر حرارة الصيف أتروّى بالاستجابة لأي خاطرة تدفعني لارتكاب حماقة، تلك الحرارة التي تنتشر في يدي تجعلني التفت لمناطق الإحساس الأخرى في جسدي. وفي وقت لاحق ظننتُ بأنها وسيلة للهروب وليست وسيلة لاستعادة التوازن، وبدا لي وأنا أغالب التثاؤب من فرط التفكير بحقيقة ذلك الظن بأنني أنافس عام ٢٠٢٠ في أي منّا يستطيع أن يحمل أعباءً أكثر.. فلتكُن إذن وسيلة هروب، وليكُن هروب محمود مرة وهروب مذموم مرة.. فلا داعي لتحويل أمر النافذة إلى حلبة نفسية ولا داعي لأي مُتنفس أن يضيق بالشكوك لأن مرور الزمن كفيل بأن يحكم في شأنها، وإلى هذه اللحظة لم أتثبت من صحة ظني فلا أعلم حقًا، فكل ما أعلمه هو أن الوقوف على النوافذ أمرٌ يعيد إليّ نفسي قبل أن تذهب.                       

وفي الحديث عن الزمن عبر ومواعظ، أو هذا على الأقل ما استنتجته من حكايتي مع سنتين عجاف عشت فيها على الحرف الأول فقط من كلمة "حياة"، حكاية شخصية مشبعة باستعارات مجازية أختبأ خلفها قدر الإمكان، حكاية تكرر فيها سؤال بين كل جزء من أجزائها، وبخلاف المعتاد لم يُطرح كإستفهام، بل كإستنكار ومرات كثيرة كإستهزاء..                         "هل ستكون هناك ندى مستقبلية؟"

لم أكن أستطيع أن أنظر لدوافع السؤال والظروف المحيطة به كفترة زمنية مؤقتة ستنقضي وتذهب، فغياب الأمل والكفر باحتمالية عودته جعلا يقيني يتخذ من اللون الأسود رداءً له، مقتنعًا بحتميته وأبديته. ولن أتطرق لتفاصيل ذلك اليقين بالرغم من أنها هي من أوجدت الحكاية، ليس بسبب تحفظي عنها بل لأنني لا أتذكرها جيدًا وكأنني حظيت بغنائم الانتصار في معركة النسيان بعدما أفنيت عمري في خوضها، لكن في الواقع لم أقدم عليها أبدًا! مرور الزمن مهّد لي الدروب المحتملة القادرة على ترتيب لقاء بيني وبين الأحرف المتبقية من كلمة "حياة"، مرور الزمن جعل عشرتي مع الحرف الأول أطياف حلمٌ يصعب استحضارها والانسجام معها.                                                                                       عزائي لمن يقرأ بأطراف مشلولة وأركانٍ محطمة وكيان مهزوز هو بأنك لست وحدك منبوذ بالعراء، وصدقني أعي بأن "مسألة وقت" قادرة على أن تُوقف حياة بأكملها وقد تقطع جميع السُّبل لاستئناف عجلتها لكن للزمن شخصيته الفوضوية المتأنقة، البسيطة المعقدة، المستقلة التابعة. ويبدو بأن التسليم لهذه الشخصية هو المنجا. أتراني سلّمت في بداية الأمر؟ لا أعتقد، وإلا لما استغرقت حكايتي سنين. لكن كانت هناك أغنية أرددها على مسامعي وقت الفواصل بين نوبات الاكتئاب وقد سبق وذكرت مقطع منها في خاتمة تدوينة قديمة وسأذكرها هنا وفي كل مرة قادمة:

"ها انا وقعت في مصيدة الوجود و لا أعلم سُبل النجاة منها و لهذا السبب يا حمقاء لا تنسي أن تعيشي، كُفّي عن التجاهل و استيقظي، لا تنغمسي و تتعلقي كثيراً بأشباك تلك المصيدة، و أعلم سلفاً أن هذا لن يوقف مُقلتاكِ عن ذرف الدموع، و لا عن أصابعكِ التي لا زلت تخفق في إيصال شعورك، و لا عن سهوة عقلك وضعف قلبك، و أعلم أنه ستمرّ أيام لن تستطيعي فيها مغادرة فراشك، لكن لا تتوقفِ عن التشبث بكل ما هو جميل، واسندي كتفاكِ على لطافة الغرباء وتأملي قول لانا في أغنيها Change:

There’s a change gonna come

I don’t know where or when

But whenever it does We’ll be here for it"

وها أنا الآن أستيقظ وأنام بين أكناف التغيير.

وفي الحديث عن التسليم كتب لي كورونا عمرًا جديدًا مع التسليم في الثالث عشر من أبريل عندما أوقعت الواقعة بكامل إرادتي ووعيي.          حينما عزمت أمري واتخذت قراري برزت حدبة من خوف في ظهري، لأنني لم أكن متيقنة من صحة قراري ذاك.. وأعلم بأن لكل إنسان نصيب من هذا النوع من القرارات التي يقدم عليها لكنه يعلق في الخط الرفيع بين ما يرغب به وبين ما ينبغي فعله، فلا يعلم من أين نبع قراره؟ من الأول أم من الثاني؟ لكنني هذه المرة رُزقت بمعرفة منبعه، بلا شك كان من الثاني، لأنني ما كنتُ أودُّه حقًا هو أن أنام وأصحى على صوته، أن يضع رأسه بين يدي لألملم الليل عن شعره، وبالتأكيد لم أكن أرغب بأن ألجأ لكلمات الأغاني التي كنا نسمعها سويًا لأصف ما كان فؤادي يتوق إليه.

أعرف بأن قراري كان صحيحًا وسليمًا لكنه لم يكن يحظى بالقبول من نفسي، وما يدور في مخيلتي الآن كلما استعرضت تلك الحادثة هو مشهد في طفولتي يعود لمرحلة الروضة: حينما كنت أرفض الذهاب للمدرسة أخرج أقوى أسلحتي وأفتكها ألا وهو العناد، أعاند وأبقى على الأرض وأتمسك بها كتمسك بطل من حكايا سندباد بجوهرة ثمينة يخشى عليها من الضياع لأنها تبدو له حبل نجاته، يقايض حريته بها. فكانت أمي تدفعني من خلف باب بيتنا حتى يتسنى لمشرفة الحافلة التقاط ما تدفعه أمي، فتسحبني بعبارات لا أتذكر نصها لكنها بالتأكيد تشابه "يلا شاطرة المدرسة حلوة" وبعد شد وجذب أرضخ وأمد كفي الصغير لها. بعد بضع سنين تكرر المشهد مع اختلاف البواعث والأسباب، كبرت الطفلة إلى الحد الذي تستطيع أن تتولى دفة السفينة وتقرر إذا أردات ركوب الموجة أم لا: صراع العقل والقلب.. فالإمرأتان في المشهد القديم تجسدان العقل والمنطق في المشهد الحديث، والطفلة تجسد عاطفتي.                                                                    ختمت المشهد لما ركلت قلبي بقدمي على أمل استرداده وبلا عبارات تجلعني انقاد لفكرة "التخلي" بسلاسة وليونة، ولم يكن أمر الاستعاضة بفكرة أخرى أمرًا ممكنًا، بل كانت طريقًا وجب علي سلكها وإلا سنلقى حتفنا.

في الحقيقة ليس هنالك ما يسمى بنهاية، فكل نهاية بشكل ما تُفضي إلى بداية جديدة، والتغيير إشارة للازدهار فسيبدلني الله خيرًا ويأتيني من فضله.

هذا ما كنت أردده وقت ذرف الدموع قبل النوم طيلة الحجر، كانت شعارات أضمد بها جرح قلبي من الفراق، ولعلّها الآن شعارات أحيا بسببها ومن أجلها.

قد انتابني شك بشأن ما اتخذته مرات عديدة، لاسيما عندما رأيت نفسي أنني أقف الآن بإتزان واستقامة على أرض مستوية ومعتدلة فروادتني فكرة الرجوع لأنني لم أعد أخشى نسختي المضطربة القديمة التي كسفت شمسي من المقام الأول، فكيف أخشى نسخة لم يعد لها وجود؟ لكن لا ألبث لحظة حتى أتذكر قولًا لا أعلم كيف وجد لنفسه مدخلًا: لا يعقل أن تجعلي حياة الآخرين تقف على ترددك، مرهونةٌ بحال محطات رحلتك.

والآن أستلقي بعدما ألقيت تحياتي

والوجدان يردد أين أنت الآن؟ بل أين أنا

والسمع يصغي والطرف يتلفت لمآل السؤال:

قد غدوت الآن أدري من أنا

أنا طيرٌ رنام فى دنيا الأحلام

أنا ثغر بسام فى صفو الأيام

ذاك مآل سنهتدي له مهما بعد وأناب.

إلى فتى أم كلثوم الذي أصبح كأم كلثوم الآن، متباعد الزمان والمكان بعدما كان تحت سمعي وبصري، سلامٌ عليه.. 

سلام الله ورحمته على من كان صديقي الحبيب.


كوني بخير واستمتعي ندى

كُن بخير واستمتع قارئي