وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ




سقط مني سهوًا تأريخ هذه الورقة لكني أتذكر بأنها كانت في بداية سنتي الجامعية الثانية
فعلى الأرجح كانت ما بين سبتمبر/أكتوبر عام ٢٠١٨
كنت في الأحساء، في طريقي للذهاب إلى الجامعة لكن في ذلك اليوم سلكنا طريق مختلف فمررنا على تشكيلة جديدة من أحياء قديمة ومتهالكة فإذا بي اندهش من باب قديم لونه أزرق سطع من بين كومة ألوان محترقة
ولم يتسنى لي تصويره فلبثت طوال يومي أفكر فيه وأفكر في حال أهل الدار وحال النجار إن صنع أبواب بألوان لا يقل بريقها عن  ذاك الأزرق
وأيضًا إن كان يحمل فلسفة حول الألوان والأبواب
فعندما عدت للمنزل ما كان لي إلا أن أسكب أزرقًا على ورقة بيضاء، لعلّه ينطق بما شعرته من جمال وفتنة 


 "تفتني الأبواب"
هكذا أودّ أن أبدأ حديثي وأختتمه في آن واحد، لأنني لست متيقنة إن كانت فلسفتي حول الأبواب قابلة للمشاركة أم لا ، بل والأهم من ذلك لا أعلم عن مدى قابليتها للتشكل اللغوي والخروج إلى الفضاء الخارجي، لا سيما فضاء هذه المدونة. 
فمؤخرًا أطياف من الطفولة لا تنفك عن مرافقتي وتكشف لي أحيانًا عن أسرارها، ويبدو لي بأن ذكريات الطفولة هي الذكريات التي مهما حاولنا دفنها ستعثر على طريق للعودة فهي من ساهمت في تشكيل قشرتنا الأولى لننسلخ بعدها عدة مرات، من دون المساس بتفاصيل القشرة الأولى
وما عزز مرافقتي للأطياف وما يدفع عقلي إلى الوراء والبحث في جلابيب تلك المرحلة هو اقتباس ظهر لي في تايملاين تويتر:
"ثمة شيء حدث في طفولتك ومن دون أن تعي ذلك كل شيء سيدور حوله إلى آخر لحظة من حياتك"
وربما أيضًا معاصرتي لأختي الصغيرة ورابطتنا التي تقوى يومًا بعد يوم والتي آمل بأنها تكون التجسيد الحقيقي والبرهان الدامغ لمفهوم سائد حمل لي الكثير من الصدمات والخيبات: "رابطة الدم هي الأقوى" 

بداية سألت من حولي عن ماذا تعني لهم "الأبواب" ؟ وماذا يتشكل في أذهانهم حينما يسمعون بتلك الكلمة؟
وتفاوتت الإجابات تفاوتًا مضحكًا، فهناك من قال "باب ندخل منه ونطلع" وهناك من قالت… حسنًا قد كانت إجابة طويلة وتحمل الكثيرمن "الأبواب" وإن كان باستطاعتي اختصارها لألبستها هذا العنوان:
"ما بين الأحلام والواقع باب فاصل" 

ثم رجعت إلى نفسي لأسألها ماذا تعني لك الأبواب حتى أصبحتي تسألين غيرك عن مفهومهم لها؟ 
وها هي إجابتي.. تبدأ باستدعاء المكشوف وصولًا للمستور

كنت ولازلت في علاقة صداقة صادقة رائعة لكن في وقتٍ ما وجدت فؤادي يميل ويقترب من أرض لا تستطيع قدماي أن تطأها، 
وما كان يُكبّل حبي هو "باب" لا أملك له مفتاح.. فكنت أتخيل علاقتنا على شكل غرف وأبواب
وما أكثر الغرف التي عبرناها، حتى في الصداقة! لأن الصداقة لا يقل شأنها عن الحب
فهي أيضًا لها رتب ومنازل، فعبرنا جميع الأبواب إلى أن وصلنا إلى الباب الأخير الذي بفتحه سينقل هذه العلاقة من تصنيف الصداقة إلى التصنيف الآخر
لكن طبيعة ما حملته من مشاعر تجاه صديقي لم تبددها المعرفة بمصير ذاك المفتاح، بأنه لن يسقط أبدًا في حوزتي فلا جدوى من الآمال والجلوس بقرب باب لم يُقدَّر لي فتحه..إذًا هيا يا ندى "صفي عفشك وامشي"

هذا ما دعاني إلى التوقف لبرهة لأعي أمري مع الأبواب، والأمر أكبر من قلب فتاة يتحرّى لطرق باب الوجد
إن الأمر يتعلق في طريقة اختيارنا للاستعارات اللغوية حينما ننسج أفكارنا والمشاعر المصاحبة لها!
فلعلّ أشهر ما نتداوله من أمثال هو "باب يجيك منه ريح سده واستريح" مختصرًا لمنهج طويل في تجنب المشاكل والمآزق، ويحدث كثيرًا أن نستمع إلى لحديث شخص حاصره اليأس من كل جانب فيعبر عنه بـ "تقفلت الأبواب في وجهي" فأوصل شعوره وجسّد معنى الخسارة وفوات الفرص والعودة خالي الوفاض في صورة ذهنية واحدة، في حركة الباب وصوت صفعه، وقد يحدث أيضًا حينما يتورم وجهه من الصفع أن يلجأ إلى أحلام اليقظة، عندما أردت مجازًا يصفها وجدتني أتجه إلى لفظ باب مرة أخرى، فكتبت: أحلام اليقظة.. سراب باب يتيح لك العودة لفردوسك المفقود. 


وها أنا الآن أبحر في سبب استعارتنا المتكررة للفظ كان في السابق شجرة سكن إليها الحمام واستظل بها العباد
وبالرغم من اختلاف النظرات  بيننا، فليس السجين الذي يرى باب زنزانته جاني سلب منه حريته كالسجَّان الذي يرى باب الزنزانة نفسها منقذ خلَّص المجتمع من شرور المذنب.
فلكل منا نظرته الفريدة حول العالم التي تشكلت من خلال ما أدركه بحواسّه كونها 
"الوسيط العلمي المنطقي ما بين الإنسان والعالم" 
وأعتقد بأن لحاسة البصر النصيب الأكبر والدور الأعظم في مد الجسر ما بين الإنسان والعالم..
لكن أهذا حقًّا صحيح؟ هل هناك فعلًا فاصل ما بين ذات الإنسان وذات العالم؟ لأن بطريقة ما يبدو وكأن
كلاهما متصلان، متصلان كاتصال المبنى بالأرض اتصال قرار، فلا يمكن فصله أو نقله من دون هدم أو إلحاق ضرر به. 
إذًا كيف لي أن أقف أمام هذا الترابط الهائل وأبحث عن السبب المشترك بيننا في توظيف "الباب" مجازيا؟

ربما لما يحمله من أهمية من الناحية الواقعية في الحفاظ على خصوصية الفرد من أدنى تدخل خارجي ومساهمته في حق الوجود، 
فكم من طرقة باب طُرِقَت استئذانًا لولوج فناء الدار؟ وكم من باب أُحكم إغلاقه إما لإرتداء ثوب الشهوة أو ثوب البكاء. وكم من مآرب أخرى لم نكن لنمارسها لولا وجود الباب.. فمن هذا المكان تسلل الباب إلى لغتنا. 

أو ربما ما لامسناه في النصوص القرآنية فتأثرت لغتنا به من غير أن نشعر



لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ 


[Al-Hijr 44]

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ 

[Sad 50]



لطالما تفكر الإنسان في مصيره عند ذهابه للعالم الآخر وكيف سيكون شكله، فيأتي القرآن ويبين الحالات التي ستسير بها أنفاسه الأخيرة التي لفظها إلى النعيم وكذلك الحالات إلى الجحيم
ويأتي ذكر الأبواب… للجنة ثمانية وللنار سبعة 
أبواب لدار المستقر والمقام الأخير، وحقيقةً هذا أول ما يخطر في ذهني حينما استفتح العملية التخيلية لشكل الجنة ومنظر الملائكة القائمين على الأبواب ليلقون تحية وسلام طيبًا.


فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ 
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ 

[Al-Qamar 11]



ويأتي ذكر الأبواب هنا في إنزال العذاب والهلاك على قوم نوح لكنها فُتحت أيضًا لمناصرة نبي الله ولتطهير ما شاب الأرض من ظلم وطغيان 
أبواب لتبعث حياة من بعد موت



إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ 


[Al-'A`raf 40]



مرة أخرى ترتبط الأبواب ارتباطًا وثيقًا بهاجس من هواجيس الإنسان وتوقه الأبدي نحو ما هو غامض ومثير
نحو السماء، نحو عالم حظى بالقداسة لدى الأدباء وحظى بالفضول لدى العلماء. 


أو ربما في النهاية ليس للباب وجود سوى في وجداني، بمعنى أنه يجب أن أتوقف عن التحدث بصيغة الجماعة وأتحدث عن نفسي فقط، أتحدث عن أول فيلم ديزني شاهدته عندما كنت في التاسعة من عمري
نشأت في بيت كان يشكك في شرعية ديزني ويرى بأنها وسيلة من وسائل الغزو الفكري لزرع أفكار "غير إسلامية." في عقول الأطفال
فلم تكن متاحة لأنها ممنوعة، ومرة كنت في زيارة لبيت قريبتي من دون مرافقة والدتي لي فشاهدنا فيلم شركة المرعبين المحدودة
وهذا كان أول فيلم شاهدته، وهذا محطتي الأولى في رحلتي مع الأبواب. 
أتمنى بمجرد ذكري السريع لهذا الخبر أن يتضح السبب الحقيقي لمكانة الأبواب لدي، لأني لا أستطيع أن أذكره صراحةً ولا التفصيل فيه  لتعلقه في حياتي الشخصية الأسرية. 



كوني بخير واستمتعي ندى
كُن بخير واستمتع قارئي وتأمل في أبوابك